لا أدري.. لماذا تذكرت قصة نوح عليه السلام مع ابنه..
وأنا أسمع حشرجة صوت ذلك الرجل الوقور.. والبكاء الذي غلبه وهو يخبرني بأن ابنه أصيب بجلطة في القدم بسبب تعاطي المخدرات..
وتلك هي المرة الثانية التي يصاب فيها ابنه بجلطة في القدم وهو لم يكمل عامه الخامس والعشرين..
تذكرت نوح عليه السلام وهو يلح على ابنه ويقول له: (يا بني اركب معنا)..
ويدعوه ويلح عليه بأن يركب معه سفينة النجاة..
فيأبي الابن ويقول لأبيه: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)..
وتعميه السَكْرة عن رؤية ذلك الطوفان الذي غطى الجبال..
فحال بينهما الموج فكان من المغرقين..
أتصور ذلك الأب المكلوم.. كل ليلة.. بل كل لحظة..
وهو يقول لابنه: “يا بني بطّل”
“يا بني خد بالك من صحتك”
“يا بني حرام عليك”
“يا بني ارحم كبر سني وضعفي.. فقد تعبت من اللف والجري وراك”
فيقول كما قال ابن نوح:
سآوي إلى جبل من الضرب والمخدرات.. يعصمني من قرف ومشاكل الحياة….
سآوي إلى تلك الأحاسيس من النشوة واللذة من الضرب..
والتي لا تساويها نشوة أو لذة أخرى..
سآوي إلى شلة الضرب.. وقعدات التعاطي والسُكر والانبساط..
سآوي إلى صديقتي، أو إلى الديلر.. الذي يوفر لي ما أحتاج من الضرب والمخدرات.. حتى لو مش معايا فلوس!
فتعميه سكرة المخدرات والضرب..
تعميه سكرة الضرب؛
عن رؤية خسائره النفسية والجسدية والمادية والروحانية..
لا يرى كيف أصبح بقايا إنسان..
أو جسدا بلا روح..
وهو لا يزال في ريعان الشباب..
لا يرى ذلك السجن الذي اختاره لنفسه..
وهو مسجون داخل جرعة من المخدر..
لا يستطيع التخلص منها.. بل صار أسيرا لهذه الجرعة من المخدرات،
لا يرى آثار الحقن والضرب التي شوهت معالم جسده..
لا يرى حياته التي توقفت..
فهو في الخامسة والعشرين، أو الأربعين..
وربما حجم إنجازاته لا تتجاوز إنجازات مراهق حاصل على الإعدادية..
لا يرى خسائره المادية..
فضلا عن الفرص الذهبية اللي ضيعها، واللي كان من الممكن أن تجعله شخص ناجح.. لو استفاد منها..
لا يرى عزلته.. وفقد اهتماماته.. والتي تلخصت في غرفة لا تفتح للتهوية.. وأدوات الضرب والتعاطي..
وشلة الضرب..
لا يرى تلك الأسرة التي تفككت بسببه..
ويعاني أفرادها الضياع والمعاناة والألم المستمر..
أتصور ذلك الأب الوقور وهو يصلي ويدعو الله بالليل منتظرا عودة ابنه من جلسات التعاطي والشرب..
وقلبه يتقطع على فلذة كبده..
ولا يملك حيلة.. إلا الدعاء والتضرع إلى الله..
والإلحاح على ابنه بأن يتوقف ويذهب للعلاج..
مساكين أهل هؤلاء الشباب الذين جنحوا للإدمان والمخدرات..
لا يعرفون طعما للراحة..
ليلهم نهار..
ونومهم كوابيس مزعجة..
أجسامهم ونفوسهم فريسة للأمراض الجسدية والنفسية..
ضغط.. سكر.. اكتئاب.. قلق.. توتر.. إضطرابات في النوم.. آلام نفسية جسدية..
عزلة..
هزني صوت بكاء الأب الوقور..
فتذكرت عذاب الكثير من الآباء والأمهات..
تذكرت تلك الأم المكلومة.. والتي كلمتني بعد الفجر لتخبرني بوفاة ابنها الصغير في السجن..
وقد حُبس على ذمة قضية مخدرات..
وتطلُب مني أن أسمح بنزول ابنها الأكبر لحضور جنازة أخيه وقد كان وقتها يعالَج من الإدمان..
لا زال يرن في أذني صوت لوعتها وحسرتها..
تذكرت ذلك الشاب والذي ضرب والده بالكزلك.. شيء يشبه الساطور..
فتسبب في بتر ساقيه..
فلا الأب مات ليستريح من الألم والمعاناة..
ولا استطاع أن يغفر لابنه ما فعله به..
فكلما طلب منه ابنه الدعاء له دعا عليه..
فاستمرت معاناة الأب..
واستمرت معاناة الابن..
كما أن هناك آلاف وآلاف القصص لمعاناة هؤلاء الشباب اللي ابتلوا بالإدمان،
فهناك آلاف وآلاف القصص الأكثر إيلاما،
واللي تهز القلب،
لمعاناة أسر هؤلاء الشباب اللي عانوا بسبب إدمان أبنائهم وبناتهم!
لا نحتاج إلى سب ولعن هؤلاء الشباب اللي ابتلوا بالإدمان ..
بل نحتاج إلى الرفق بهم..
وإلى تقبلهم وحبهم.. لكي نستطيع مساعدتهم..
كما نحتاج أيضا إلى تفهم معاناة أسر هؤلاء الشباب..
ووجعهم المستمر على أبنائهم..
نحتاج -أيضا- إلى الطبطبة عليهم وطمأنتهم،
بأن هناك نور في آخر هذا النفق المظلم..
نحتاج إلى إدماج الأهل في علاج أبنائهم..
ليس فقط لضمان نجاح العلاج معهم..
بل لحل مشكلاتهم النفسية والجسدية والتي تسبب فيها إدمان أولادهم..
والتخفيف عنهم..
ودعمهم ومساندتهم.
وللحفاظ على الأمل حيّا في نفوسهم.