حينما تكون شركة دواء كبرى مافيا دولية!
حتى منتصف التسعينيات من القرن الـ ٢٠؛
كانت هناك حساسية وتخوفات من وصف المسكنات الأفيونية في الوصفات الطبية،
وذلك بسبب المخاطر العالية للإدمان على هذه الأدوية،
وكان يقتصر الأمر على وصفه لمرضى السرطان ذوي الآلام الشديدة.
حتى جاء عام ١٩٩٦ وأطلقت شركة
بيردو فارما Purdue Pharma
المملوكة لعائلة ساكلر Sackler والمشهورة بالأعمال الخيرية والتبرعات الكبيرة في الولايات المتحدة،
حيث أنتجت الشركة دواء
أوكسي كونتين OxyContin
والذي يحتوي على المادة الفعالة أوكسيكودون Oxycodon
الأكثر فعالية من المورفين!
بدأت الشركة بالترويج للعقار الجديد،
واتبعت استراتيجية توصف بأنها “شرسة”
Aggressive marketing behavior
في الترويج للعقار الجديد،
وبأنه يساعد في تخفيف الآلام بشكل رهيب،
ويمكن استخدامه ليس لمرضى السرطان فقط،
بل لمرضى الآلام المزمنة،
مثل آلام المفاصل وآلام الظهر المزمنة وآلام العمل اليدوي!
والترويج كذلك لأن الدواء آمن ولا توجد منه مخاطر إدمانية.
وبأن الشركة اتخذت التدابير الكافية لمنع إساءة استخدام الدواء أو إدمانه، وأنه حان الأوان لتغيير نظرتنا ناحية المسكنات الأفيونية!
***
تقريبا حصل شيء مشابه مع الترمادول عندنا؛
حيث تعاطى الترامادول فئات لم يكن في حسبانها أنها ستكون مدمنة عليه،
طلاب جامعات وموظفين،
وعمال وفواعلية وسائقي التاكسي والنقل العام،
وفئات أخرى…
إما بدافع تقليل الإحساس بالألم،
أو الحصول على بعض الطاقة،
أو السهر،
أو القدرة على أداء عمل إضافي…
أو حتى حل مشكلة سرعة القذف!
حتى بعض السيدات المضطرة للعمل، وفي نفس الوقت عايزة تشتغل من البيت..
كل هذه الفئات تورطت في إدمان الترمادول.
ولما شحّ الترامادول وارتفع سعره، تحولت كثير من هذه الفئات لإدمان الهيروين المتوفر والأرخص!
أو تحولت لمواد بديلة للترمادول.
وطبعًا كثير منهم طلب العلاج.
ولم يكن في حسبان هؤلاء الذين تعاطوا هذه المواد بحسب وصفات طبية مشروعة أن يصل الأمر إلى هذا الحد!
***
في أمريكا..
وتحت مظلة الـ Medical Insurance،
لم يكن في حسبان المستخدمين للأوكسي كونتين أنهم سيتحولون لمدمنين على هذه المادة.
ومنهم من مات جراء جرعة الزائدة،
والتي تزيد قوتها عن قوة الهيروين أو المورفين ٥٠ – ١٠٠ مرة!
بالمناسبة كثير من هؤلاء تعاطوا الهيروين أيضا عندما لم يستطيعوا توفير هذه المادة،
تماما مثلما حدث في مصر!
بل أصبح الهيروين يخلط بهذه المواد لزيادة فاعليته!
وروجت الشركة للدواء بأنه العلاج الذي “يبدأ به المريض ويظل معه”
وأصبح الدواء كأنه حبوب سحرية لمرضى هذه الأمراض المزمنة.
استطاعت الشركة إقناع هيئة الدواء والغذاء في أمريكا FDA
وأصبح الدواء FDA approved
ومعترف به!
أثبتت التحقيقات الفيدرالية لاحقا
أن الشركة قدمت رشاوي كثيرة
لتسويق المنتج الجديد،
بدءا من موظف هيئة الدواء والأغذية، والذي تعاقد لاحقا مع الشركة نظير راتب سنوي ٤٠٠ ألف دولار،
وكذلك مندوبي المبيعات،
والأطباء المتحدثين،
وكان الغرض هو تقليل الحساسية من الإتجار في الدواء،
وتقليل الخوف من إدمان الدواء الجديد..
الأوكسي كونتين أطلق العنان لمجموعة من الأدوية المماثلة، التي يُطلق عليها المسكنات الأفيونية، وأشهرها الأوكسي كونتين والفنتانيل، وأدوية كثيرة مماثلة..
وأصبح يكتب مئات ملايين الوصفات الطبية بهذه الأدوية في كل عام،
حتى أصبحت الولايات المتحدة الامريكية تعاني مما وصف بالـ opioid crisis أو أزمة المواد الأفيونية!
عدد الوفيات -سنويا- بسبب هذه الأدوية كان عشرات الآلاف،
ووصل العدد في عام ٢٠١٨ إلى حوالي ٦٤ ألف،
بإجمالي وفيات حوالي ٥٠٠ ألف،
بالإضافة لـ ملايين الأشخاص الذين يعانون من اضطراب الإدمان بسبب المواد الأفيونية،
للدرجة التي جعلت دونالد ترامب يعلن حالة الطوارئ إزاء الـ Opoid Crisis.
ترامب أعلن عن تشكيل لجنة تحقيق برئاسة حاكم ولاية نيوجرسي،
حيث تم فتح تحقيق في أكثر من ٤٠ ولاية مع كبرى شركات الأدوية،
حول وجود شبهات تواطؤ أو إغراق للسوق،
لدرجة ترامب قال أن إدمان المخدرات أصبح أكبر مسبب لوفاة الأمريكيين،
أكثر من حوادث المرور والسلاح؛
فحوالي ١٠٠ حالة وفاة يوميا بسبب المخدرات،
وقال كذلك أن ١١ مليون أميركي أساءوا استخدام الحبوب المهدئة في عام ٢٠١٦
أدانت التحقيقات على الأقل ٤ شركات كبرى،
ودفعت هذه الشركات تعويضات ضخمة،
منها جونسون أند جونسون.
كما أدينت شركة ماكنزي للاستشارات، وغيرها…
***
بخصوص شركة Purdue، المتسبب الرئيسي في هذه الأزمة،
والتي أوجدت هذه الأزمة من الأساس،
فبرغم أنه تم إدانة الشركة في عام ٢٠٠٧،
ووجدت مذنبة ودفعت تعويضات بحوالي ٦٠٠ مليون دولار،
إلا أن الشركة عاودت النشاط سريعًا من ٢٠٠٩ حتى عام ٢٠١٩،
وحققت إيرادات من دواء أوكسي كونتين بحوالي ٣٥ مليار دولار،
بإجمالي أرباح حوالي ١٠ مليار دولار لعائلة ساكلر المالكة للشركة.
***
انتهت التحقيقات عام ٢٠١٩،
حيث أقرت الشركة بالذنب في إحدى المحاكم الاتحادية في نيويورك التي كانت تنظر القضية.
حيث اعترفت الشركة بأنها مذنبة في ٣ جرائم جنائية؛
وهي تهم الاحتيال وانتهاك قانون الغذاء والدواء،
وتهم انتهاك القانون الفيدرالي لمكافحة الرشوة..
في حيثية الاتهام، قال نائب المدعي العام جيفري روزن: “لقد ساهمت في إساءة استخدام المواد الأفيونية الموصوفة طبيا، وتحولت إلى مأساة وطنية من خلال زيادة حالات الإدمان والوفيات..”.
مساعد المدعي العام الأمريكي الأول لمنطقة نيوجيرسي قالت: “اعترفت شركة بيردو بأنها قامت بتسويق وبيع منتجاتها من المواد الأفيونية الخطرة لمقدمي الرعاية الصحية، على الرغم من وجود أسباب تدعوها للاعتقاد بأن هؤلاء الأشخاص الذين يقومون بصرف هذه الوصفات الطبية قد يسيئوا استخدامها (أو إدمانها)!”.
الادعاء اتهم الشركة بأنها كذبت على إدارة مكافحة المخدرات،
بشأن اتخاذها تدابير لعدم إدمان هذه المادة،
وكمان بشأن الاحتيال في زيادة كميات المنتجات المسموح لها ببيعها من هذا الدواء،
وكمان الاحتيال بصرف عمولات لمقدمي الخدمات لتشجيعهم على وصف مزيد من الوصفات والروشتات الطبية.
المدعي العام الأمريكي لمقاطعة فيرمونت؛
قالت بأن الشركة قدمت أرباحها على أرواح وحياة الناس،
وأفسدت العلاقة بين الطبيب والمريض،
عن طريق رشوة الأطباء بكتابة مزيد من الوصفات الطبية من هذه المادة!
الشركة ضللت أجهزة المكافحة بشأن عدد الوصفات الطبية المقدمة منها،
وقالت أن هناك طلب متزايد من المرضى ومن الأطباء لهذه المادة،
واستغلت ده في تصنيع كميات كبيرة من هذه المادة.
الشركة اعترفت بأنها دفعت مبالغ مالية لاثنين من الأطباء المتحدثين في جامعة بيردو،
لحث الأطباء الآخرين على كتابة مزيد من الوصفات الطبية!
وكمان دفعت لإحدى شركات السجلات الصحية الإلكترونية،
مقابل التوصية بطلب منتجات الشركة من المسكنات الأفيونية!
بحسب شروط اتفاق الإقرار بالذنب؛
الشركة تم تغريمها حوالي ٣.٥ مليار دولار،
كغرامة جنائية،
بالإضافة لـ ٢ مليار دولار أيضا تدفعها الشركة لحكومات الولايات والحكومات المحلية..
وفِي النهاية اتفقت الشركة على إعلان إفلاسها، ودفع ٢.٨ مليار دولار لتسوية مسؤوليتها الجنائية،
وأن يتم تحويل الشركة إلى شركة منفعة عامة.
في ١٧نوفمبر ٢٠٢٠ وافقت محكمة الإفلاس في المنطقة الجنوبية لنيويورك على الشروط المالية للقرار العالمي مع الشركة،
يتضمن القرار شرط توقف الشركة عن العمل في شكلها الحالي والخروج بدلاً من ذلك من الإفلاس كشركة ذات منفعة عامة (PBC) أو كيان له مهمة مماثلة مصممة لصالح الجمهور الأمريكي،
وأن يتم توجيه عائدات الشركة الجديدة نحو برامج مكافحة المواد الأفيونية الحكومية والمحلية.
***
المدعي العام لولاية نيويورك ليتيتيا جيمس،
برغم معارضته المعلنة لخطة الإفلاس؛
إلا أنه قال: “إن الأموال التي ساهمت بها شركة ساكلر ستفيد بعض الشيء.”
وقال أيضا:
“لا توجد صفقة مثالية، ولن يعوض أي مبلغ من المال على الإطلاق مئات الآلاف الذين فقدوا حياتهم،
أو ملايين الأبريائ الذين أصبحوا مدمنين، أو عدد لا يحصى من العائلات التي مزقتها هذه الأزمة؛ أزمة المواد الأفيونية.”
ولكن هذه الأموال ستستخدم لمنع الموت والدمار نتيجة انتشار وباء المواد الأفيونية.
الخلاصة؛ أن الخطورة لا تأتي فقط من عصابات الإتجار بالمخدرات أو حتى المافيا الدولية؛
بل لا يقل ما عملته هذه الشركة من احتيال ورشاوي وفساد عن هذه المافيا؛